فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} أي بكل طريقٍ من طرق الدِّين كالشيطان. وصراطُ الحقِّ وإن كان واحدًا لكنه يتشعب إلى معارفَ وحدودٍ وأحكامٍ وكانوا إذا رأَوْا أحدًا يشرَع في شيء منها منعوه. وقيل: كانوا يجلِسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيبًا إنه كذابٌ لا يفتنَنَّك عن دينك ويتوعّدون لمن آمن به وقيل: يقطعون الطريق {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي السبيلِ الذي قعَدوا عليه فوقع المُظهرُ موقعَ المضمرِ بيانًا لكل صراطٍ ودلالةً على عِظم ما يصدون عنه وتقبيحًا لما كانوا عليه، أو الإيمانِ بالله أو بكل صراط على أنه عبارة عن طرق الدين وقوله تعالى: {مَنْ ءامَنَ بِهِ} مفعول تصدون على إعمال الأقربِ، ولو كان مفعولَ توعِدون لقيل: وتصُدونهم، وتوعِدون حالٌ من الضمير في تقعدوا {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي وتطلبون لسبيل الله عوجًا بإلقاء الشُبَهِ أو بوصفها للناس بأنها مُعْوجةٌ وهي أبعدُ شيءٍ من شائبة الاعوجاج.
{واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} بالبركة في النسل والماء {وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} من الأمم الماضيةِ كقوم نوحٍ ومَنْ بعدهم من عاد وثمودَ وأضرابِهم واعتبِروا بهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط} أي طريق من الطرق الحسية {تُوعَدُونَ} أي تخوفون من آمن بالقتل كما نقل عن الحسن وقتادة ومجاهد وروي عن ابن عباس أن بلادهم كانت يسيرة وكان الناس يمتارون منهم فكانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبًا ويقولون لهم: إنه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم.
ويجوز أن يكون القعود على الصراط خارجًا مخرج التمثيل كما فيما حكي عن قول الشيطان: {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] أي ولا تقعدوا بكل طريق من طرق الدين كالشيطان، وإليه يشير ما روي عن مجاهد أيضًا.
والكلية مع أن دين الله الحق واحد باعتبار تشعبه إلى معارف وحدود وأحكام وكانوا إذا رأوا أحدًا يشرع في شيء منها منعوه بكل ما يمكن من الحيل.
وقيل: كانوا يقطعون الطريق فنهوا عن ذلك.
وروي ذلك عن أبي هريرة وعبد الرحمن بن زيد، ولعل المراد به ما يرجع إلى أحد القولين الأولين وإلا ففيه خفاء وإن قيل: إن في الآية عليه مبالغة في الوعيد وتغليظ ما كانوا يرومونه من قطع السبيل.
{وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي الطريق الموصلة إليه وهي الإيمان أو السبيل الذي قعدوا عليه فوضع المظهر موضع المضمر بيانًا لكل صراط ودلالة على عظم ما يصدون عنه وتقبيحًا لما كانوا عليه، وقوله سبحانه: {مَنْ ءامَنَ بِهِ} مفعول {تَصُدُّونَ} على إعمال الأقرب لا {تُوعَدُونَ} خلافًا لما يوهمه كلام الزمخشري إذ يجب عند الجمهور في مثل ذلك حينئذٍ إظهار ضمير الثاني.
ولا يجوز حذفه إلا في ضرورة الشعر فيلزم أن يقال: تصدونهم وإذا جعل {تَصُدُّونَ} بمعنى تعرضون يصير لازمًا ولا يكون مما نحن فيه.
وضمير {بِهِ} لله تعالى أو لكل صراط أو سبيل الله تعالى لأن السبيل يذكر ويؤنث كما قيل، وجملة {تُوعَدُونَ} وما عطف عليه في موضع الحال من ضمير {تَقْعُدُواْ} أي موعدين وصادين: وقيل: هي على التفسير الأول استئناف بياني، والأظهر ما ذكرنا.
{وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي وتطلبون لسبيل الله تعالى عوجًا بإلقاء الشبه أو بوصفها للناس بما ينقصها وهي أبعد من شائبة الإعوجاج: وهذا إخبار فيه معنى التوبيخ وقد يكون تهكمًا بهم حيث طلبوا ما هو محال إذ طريق الحق لا يعوج.
وفي الكلام ترق كأنه قيل: ما كفاكم أنكم توعدون الناس على متابعة الحق وتصدونهم عن سبيل الله تعالى حتى تصفونه بالاعوجاج ليكون الصد بالبرهان والدليل.
وعلى ما روي عن أبي هريرة وابن زيد جاء أن يراد بتبغونها عوجًا عيشهم في الأرض واعوجاج الطريق عبارة عن فوات أمنها.
وذكر الطيبي أن معنى هذا الطلب حينئذٍ معنى اللام في قوله سبحانه: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وعلى سائر الأوجه في الكلام الحذف والإيصال.
{واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا} عددكم {فَكَثَّرَكُمْ} فوفر عددكم بالبركة في النسل كما روي عن ابن عباس.
وحكي أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله تعالى في نسلها البركة والنماء فكثروا وفشوا.
وجوز الزجاج أن يكون المعنى إذ كنتم مقلين فقراء فجعلكم مكثرين موسرين، أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد.
و{إِذْ} مفعول {اذكروا} أو ظرف لمقدر كالحادث أو النعم أي أذكروا ذلك الوقت أو ما فيه {وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} أي آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود واعتبروا بهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله: {ولا تقعدوا بكلّ صراط توعدون}.
هذا الأصل الثّالث من دعوته وهو النّهي عن التّعرّض للنّاس دون الإيمان، فإنّه بعد أن أمرهم بالإيمان بالله وما يتطلّبه من الأعمال الصّالحة، وفي ذلك صلاح أنفسهم، أي أصلحوا أنفسكم ولا تمنعوا من يَرغب في إصلاح نفسه ذلك أنّهم كانوا يصدّون وفودَ النّاس عن الدّخول إلى المدينة التي كان بها شعيب عليه السّلام لئلا يؤمنوا به.
فالمراد بالصّراط الطريق الموصلة إلى لقاء شعيب عليه السّلام.
والقعود مستعمل كناية عن لازمه وهو الملازمة والاستقرار، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {لأقْعُدَنّ لهم صراطك المستقيم} في هذه السّورة (16).
وكُلّ للعموم وهو عموم عُرفي، أي كلّ صراط مبلغ إلى القرية أو إلى منزل شعيب عليه السّلام، ويجوز أن تكون كلمة كلّ مستعملة في الكثرة كما تقدّم.
والباء للإلصاق، أو هي بمعنى في كشأنها إذا دخلت على أسماء المنازل.
كقول امرئ القيس:
بسِقْط اللِّوَى

البيت.
وجملة: {توعدون} حال من ضمير {تقعدوا} والإيعاد: الوعد بالشرّ.
والمقصود من الإيعاد الصدّ، فيكون عطف جملة {وتصدون} عطفَ علّة على معلول، أو أريد توعدون المصمّمين على اتِّباع الإيمان، وتصدّون الذين لم يصمّموا فهو عطف عام على خاص.
و{من آمن} يتنازعه كلٌ من {توعدون} وتصدّون.
والتّعبير بالماضي في قوله: {مَن آمن به} عوضًا عن المضارع، حيث المراد بمن آمن قاصدُ الإيمان، فالتعبير عنه بالماضي لتحقيق عزم القاصد على الإيمان فهو لولا أنّهم يصدّونه لكان قد آمن.
و{سبيل الله} الدّين لأنّه مِثل الطريق الموصل إلى الله، أي إلى القرب من مرضاته.
ومعنى {تبغونها عوجا} تبغون لسبيل الله عوجًا إذ كانوا يزعمون أن ما يدعو إليه شعيب باطل، يقال: بغاه بمعنى طلب له، فأصله بغى له فحذفوا حرف الجر لكثرة الاستعمال أو لتضمين بغى معنى أعطى.
والعِوَج بكسر العين عدم الاستقامة في المعاني، وبفتح العين: عدم استقامة الذات، والمعنى: تحاولون أن تصفوا دعوة شعيب المستقيمة بأنها باطل وضلال، كمن يحاول اعوجاج عود مستقيم.
وتقدم نظير هذا في هذه السورة في ذكر نداء أصحاب الجنة أصحاب النار.
وإنما أَخَّر النهي عن الصد عن سبيل الله، بعد جملة {ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين} ولم يجعله في نسق الأوامر والنواهي الماضية ثم يعقبه بقوله: {ذلكم خير لكم} لأنه رتّب الكلام على الابتداء بالدعوة إلى التوحيد، ثم إلى الأعمال الصالحة لمناسبة أن الجميع فيه صلاح المخاطبين، فاعقبها ببيان أنها خير لهم إن كانوا مؤمنين فاعاد تنبيههم إلى الإيمان وإلى أنه شرط في صلاح الأعمال، وبمناسبة ذكر الإيمان عاد إلى النهي عن صد الراغبين فيه، فهذا مثل الترتيب في قول امرئ القيس:
كأنّيَ لم اركَبْ جوادًا للذّةٍ ** ولم أتبطّنْ كاعبًا ذات خلْخالٍ

ولم أسْبَأ الراحَ الكُميتَ ولم أقل ** لخَيْلِي كُري كَرّةً بعد إجفال

روى الواحدي في شرح ديوان المتنبي أن المتنبي لما أنشد سيف الدولة قوله فيه:
وقَفْتَ وما في الموْت شكّ لوَاقِفٍ ** كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم

تَمُر بك الأبطال كَلْمَي حزينة ** ووجهك وضَّاح وثَغْرُك باسم

أنكر عليه سيف الدولة تطبيق عَجُزي البيتين على صدريهما، وقال له كان ينبغي أن تجعل العجز الثاني عَجُزًا اللأول والعكس وأنت في هذا مِثْل امرئ القيس في قوله:
كأنّي لم أركب جوادًا للذة

البيتين، ووجه الكلام على ما قاله العلماء بالشّعر: أن يكون عجز البيت الأوّل للثّاني وعجز البيت الثّاني للأوّل؛ ليكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكَر، ويكون سباء الخمر مع تبطّن الكاعب، فقال أبو الطّيّب: إن صحّ أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا أعلَمُ منه بالشّعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأتُ أنا، ومولانا الأميرُ يعلم أنّ الثّوب لا يعرفه البزّاز معرفة الحائك، لأنّ البزّاز لا يعرف إلاّ جملته، والحائكَ يعرف جملتَه وتفصيله، لأنّه أخرجه من الغَزْليَّة إلى الثَّوْبيَّة، وإنَّما قَرن امرؤ القيس لذة النّساء بلذّة الرّكوب للصّيد وقرن السّماحة في شراء الخمر للأضياف بالشّجاعة في منازلة الأعداء، وأنا لمّا ذكرت الموت في أوّل البيت أتبعتُه بذكر الردَى لتجانسه، ولمّا كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسًا وعينُه من أن تكون باكية قلتُ: ووجهك وضّاح وثَغرك باسم لأجمع بين الأضداد في المعنى.
وهو يعني بهذا أن وجوه المناسبة في نظم الكلام تختلف وتتعدّد، وإنّ بعضًا يكون أرجح من بعض.
وذَكَّرَهُم شُعيبٌ عليه السّلام عقب ذلك بتكثير الله إياهم بعد أن كانوا قليلًا، وهي نعمة عليهم، إذ صاروا أمّة بعد أن كانوا معشرًا.
ومعنى تكثير الله إياهم تيسيره أسباب الكثرة لهم بأن قوّى فيهم قوّة التّناسل، وحفظهم من أسباب المَوتَان، ويَسَّر لنسلهم اليفاعة حتّى كثُرت مواليدهم وقلّت وفياتُهم، فصاروا عددًا كثيرًا في زمن لا يعهد في مثله مصير أمّة إلى عددهم، فيُعد منعهم النّاس من الدّخول في دين الله سعيًا في تقليل حزب الله، وذلك كفران لنعمة الله عليهم بأنّ كثَّرهم، وليقابلوا اعتبار هذه النّعمة باعتبار نقمته تعالى من الذين غضب عليهم، إذْ استأصلهم بعد أن كانوا كثيرًا فذلك من تمايز الأشياء بأضدادها.
فلذلك أعقبه بقوله: {وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين}.
وفي هذا الكلام جمع بين طريقي التّرغيب والتّرهيب.
وقليل وصْف يلزم الإفرادَ والتّذكير، مثل كثير، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى: {وكأيِّن من نبيء قتل معه ربّيون كثير} في سورة آل عمران (146).
والمراد {بالمفسدين} الذين أفسدوا أنفسهم بعقيدة الشّرك وبأعمال الضّلال، وأفسدوا المجتمع بخالفة الشّرائع، وأفسدوا النّاس بإمدادهم بالضّلال وصدّهم عن الهدى، ولذلك لم يؤت: ل {المفسدين} بمتعلِّق لأنّه اعتبر صفة، وقطع عن مشابهة الفعل، أي الذين عرفوا بالإفساد.
وهذا الخطاب مقصود منه الكافرون من قومه ابتداء، وفيه تذكير للمؤمنين منهم بنعمة الله، فإنّها تشملهم وبالاعتبار بمن مضَوا فإنّه ينفعهم، وفي هذا الكلام تعريض بالوعد للمسلمين وبالتّسلية لهم على ما يلاقونه من مفسدي أهل الشّرك لانطباق حال الفريقين على حال الفريقين من قوم شُعيب عليه السّلام.
و{إذ} في قوله: {إذْ كنتم قليلًا} اسم زمان، غيرُ ظرف فهو في محل المفعول به أي اذكروا زمانَ كنتم قليلًا فأعقبه بأن كثّركم في مدّة قريبة. اهـ.